فصل: تفسير الآيات (174- 182):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (143- 144):

{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)}
وقوله سبحانه: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} قيل: المرادُ: القائلينَ: سُبْحَانَ اللَّهِ في بَطْنِ الحُوتِ؛ قاله ابن جُرَيْجٍ، وقالتْ فِرْقَةٌ: بَلِ التَّسْبِيحُ هنا الصَّلاَةُ، قال ابن عبَّاس وغَيْره: صَلاَتُهُ في وَقْتِ الرِّخَاءِ نَفَعَتْهُ في وَقْتِ الشِّدَّةِ؛ وقال هذا جماعةٌ من العلماءِ، وقال الضَّحَّاك بن قَيْسٍ على مِنْبَرِهِ: اذْكُرُوا اللَّه؛ عباد اللَّه؛ في الرَّخَاءِ يَذْكُرْكُمْ في الشِّدَّةِ، إن يُونَسَ كانَ عَبْداً للَّهِ ذَاكِراً له، فَلَمَّا أصابَتْهُ الشِّدَّةُ نَفَعُه ذلك، قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين * لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، وإن فرعونَ كانَ طَاغِياً بَاغِياً فَلَمَّا أدْرَكَهُ الغَرَقُ، قَال: آمَنْتُ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ ذلكَ، فاذكروا اللَّهَ في الرَّخَاءِ يَذْكُرْكُمْ في الشِّدَّةِ، وقال ابن جُبَيْرٍ: الإشارَةُ بقولهِ: {مِنَ المسبحين} إلى قوله: {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنِّى كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87].

.تفسير الآيات (145- 146):

{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)}
وقوله سبحانه: {فنبذناه بالعراء...} الآية، العَرَاءُ: الأرْضُ الفيحاءُ التي لاَ شَجَرَ فيها ولاَ مَعْلَمَ، قال ابن عباس وغيره قي قوله: {وَهُوَ سَقِيمٌ}: إنَّه كالطفلِ المَنْفُوسِ، بُضْعَةُ لَحْمٍ، وقال بعضهم: كاللَّحْمِ النَّيْءِ، إلاَّ أنَّه لَمْ يَنْقُصْ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ، فأنْعَشَهُ اللَّهُ في ظِلِّ اليَقْطِينَةِ بِلَبَنِ أُرْوِيَّةٍ كَانَتْ تُغَادِيه وتُراوِحُهُ، وقيل: بلْ كَانَ يتغذى من اليَقْطِينَةِ، ويجدُ منها ألوانَ الطَّعَامِ وأنواعَ شهواتِه، قال ابن عبَّاس وأبو هريرة وعمرو بن مَيمُونٍ: اليقطين: القَرْعُ خَاصَّة، وقيل، كُلُّ مَا لاَ يَقُومُ على ساقٍ كَالبَقُولِ والقَرْعِ والبطِّيخِ ونحوِه مما يَمُوتُ؛ من عَامِهِ، ومشهورُ اللَّغَةِ أنَّ اليقطينَ هو القَرْعُ، فَنَبَتَ لَحْمُ يونُسَ عليه السلام وصَحَّ، وحَسُنَ لَوْنُهُ، لأنَّ وَرَقَ القَرْعِ أنْفَعُ شيءٍ لِمَنْ تَسَلَّخَ جِلْدُهُ، وهُوَ يَجْمَعُ خِصَالاً حميدةً، بَرْدُ الظِّلِّ ولِينُ المَلْمَسِ، وأنَّ الذُّبَابَ لاَ يقربُها، حكى النَّقَّاشُ أن مَاءَ وَرَقِ القَرْعِ إذا رُشَّ به مَكانٌ، لَمْ يَقْرَبْهُ ذُبَابٌ، ورُوِيَ أنَّهُ كان يوماً نائِماً، فأيْبَسَ اللَّهُ تِلْكَ اليَقْطِينَةَ، وقيل: بَعَث عَلَيها الأَرَضَةَ فَقَطَعَتْ وَرَقَها، فانْتَبَهَ يُونُسُ لِحَرِّ الشَّمْسِ، فَعَزَّ عَلَيْه شَأنُها، وجَزِعَ لَه؛ فأوحَى اللَّهُ إلَيْهِ: يا يونُسُ، جَزِعْتَ لِيُبْسِ الْيَقْطِينَةِ، وَلَمْ تَجْزَعَ لإهْلاكِ مِائَةِ ألفٍ أو يَزِيدُونَ تَابُوا فَتُبْتُ عَلَيْهِمْ.

.تفسير الآيات (147- 157):

{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)}
ى: {وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} قال الجمهور: إنَّ هذه الرسالةَ هي رِسالتهُ الأولى ذكرَها اللَّهُ في آخر القَصَصِ، وقال قَتَادَةُ وغيره: هذه رسالةٌ أُخْرَى بَعْدَ أنْ نُبِذَ بالعراء، وهي إلى أهل نينوى من ناحِية المَوْصِلِ، وقرأ الجمهور: {أو يزيدون} فقال ابن عباس: {أو} بمعنى بل ورُوِي عَنْه أنه قرأ: {بل يزيدون} وقالت فرقة: {أو} هنا بمعنى الواو، وقرأ جعفر بن محمد: {ويزيدون} وقال المُبَرِّدُ، وكثيرٌ مِنَ البَصْرِيِّين: قوله: {أَوْ يَزِيدُونَ} المعنى: على نَظَرِ البَشَرِ وحَزْرِهم، أي: من رآهم قال: مائة ألف أو يزيدون، وروى أُبَيُّ بنِ كَعْبٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ كانوا مائةً وعشرينَ ألفاً. * ت *: وعبارة أحمد بن نَصْرٍ الدَّاوودِيُّ: وعن أبي بن كَعْب قال: سألتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الزيادتين: {الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} قال يزيدون عشرين ألفاً، وأحسبه قال: الحسنى: الجنة، والزيادة النظرُ إلى وجهِ اللَّه عز وجل، انتهى، وفي قوله: {فَئَامَنُواْ فمتعناهم إلى حِينٍ} مثالٌ لقريشٍ إنْ آمنوا، ومنْ هنا حَسُنَ انتقالُ القَوْلِ والمحاوَرَةِ إلَيْهِم بقوله: {فاستفتهم}؛ فإنما يعود على ضميرِهم، على ما في المعنى من ذِكْرِهِمْ، والاستفتاءُ: السؤال؛ وهو هنا بمعنى التَّقريعِ والتَّوْبيخِ في جعلهمُ البَنَاتِ للَّه، تعالى اللَّهُ عَنْ قولِهمْ، ثم أخبر اللَّهُ تعالى عن فرقةٍ منهم بلغَ بِها الإفْكُ والكَذِبُ إلى أَنْ قالتْ: ولدَ اللَّهُ الملائكةَ؛ لأَنَّه نَكَحَ في سَرَوَاتِ الجِنِّ، تعالَى اللَّهُ عن قولهِم، وهذه فرقةٌ، مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ فيما رُوِيَ، وقرأ الجمهور: {أَصْطَفَى البَنَاتِ} بهمزةِ الاسْتفهامِ عَلَى جهةِ التَّقْرِيعِ والتوبيخِ.

.تفسير الآيات (158- 160):

{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)}
وقوله تعالى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} الجِنَّةُ هنا: قيل: همُ الملائِكَةُ: لأنها مُسْتَجِنَّةٌ، أي: مُسْتَتِرَةٌ، وقيل: الجِنَّةُ همُ الشياطينُ، والضميرُ في {وَجَعَلُواْ} لفِرْقَةٍ من كفارِ قريشٍ والعَرَبِ، {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي: سَتَحْضُرُ أَمْرَ اللَّهِ وثوابَه وعقابَه، ثم نَزَّهَ تعالى نفسَه عما يصِفُهُ الكفرةُ، ومِنْ هَذا استثنى عبادَه المُخْلَصِينَ؛ لأنّهُمْ يَصِفُونَهُ بِصِفَاتِهِ العُلاَ، وقالت فرقة: اسْتَثْنَاهُمْ من قولِه: {لَمُحْضَرُونَ} وعبارةُ الثعلبي: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة} أي: الملائكة أنَّ قائِلي هذه المقالةِ مِنَ الكفرةِ {لَمُحْضَرُونَ} في النَّارِ، وقيل للحسابِ، والأولُ أوْلَى لأنَّ الإحْضَارَ متَى جَاء في هذه الصُّورة عُنِيَ بهِ العذابُ {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} فإنَّهُمْ ناجُونَ مِنَ النَّار، انتهى، وفي البخاريِّ {لَمُحْضَرُونَ} أي: سيُحْضَرُونَ للحِسَابِ، انتهى.

.تفسير الآيات (161- 173):

{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)}
وقوله تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} بمعنى: قل لهم يا محمد، إنَّكم وأصنَامَكم مَا أَنْتُم بمضلِّينَ أَحَداً بسبَبِها وَعَلْيهَا إلاَّ مَنْ قَدْ سَبَقَ عليه القضاءُ؛ فإنَّه يَصْلَى الجَحِيمَ في الآخرةِ ولَيْسَ لَكُمْ إضْلالُ مَنْ هَدَى اللَّهُ تعالى، وقالت فرقة: {عَلَيْهِ} بمعنى: به والفَاتِنُ: المُضِلُّ في هذا الموضعِ؛ وكذلك فسَّره ابن عَباس وغيره، وحذفت اليَاءُ مِنْ {صَالِ} للإضَافةِ.
ثم حكى سبحانه قولَ الملائِكَةِ {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ}؛ وهذا يؤيِّدُ أَن الجِنَّةَ أرادَ بِها الملائِكةَ، وتقديرُ الكلامَ وما منا مَلَكٌ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ- رضي اللَّه عنها- عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ السَّمَاءَ مَا فِيها مَوْضِعُ قَدَمٍ إلاَّ وَفِيهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ وَاقِفٌ يُصَلِّي»، وَعَنِ ابنِ مَسْعُودٍ وغَيرِه نَحْوُه.
و{الصَّافُّونَ} معناه: الواقِفُونَ صفوفاً، و{المسبحون}، يحتملُ أن يرِيدَ بِه الصَّلاَة، ويحتملُ أنْ يريدَ قَولَ: سبحَان اللَّهِ، قال الزَّهْرَاوِيُّ: قيل: إن المسْلِمِينَ إنما اصْطَفُّوا في الصلاةِ؛ مُذْ نَزَلَتْ هذهِ الآيةُ، ولا يصطفُّ أحَدٌ من أهلِ المِلَلِ غَيْرُ المسلِمينَ، ثمَّ ذكرَ تعالى مَقَالَةَ بَعْضِ الكفارِ، قال قتادةُ وغيرُه: فإنهم قَبل نبُوَّةِ نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا: لو كَانَ لَنَا كتابٌ أو جاءَنا رسولٌ، لَكُنا عِبَادَ اللَّهِ المخْلَصِينَ، فلما جَاءهم محمَّدٌ كَفرُوا به، فَسَوْفَ يَعْلَمُون، وهذا وَعِيدٌ مَحْضٌ، ثم آنَسَ تعالى نبيَّه وأولياءَه بأنَّ القَضَاء قد سَبَق، والكلمةُ قَدْ حَقَّتْ بأنَّ رُسُلَهُ سبحانه هم المنصُورُونَ، على من نَاوَأَهُمْ، وجُنْدُ اللَّهِ همُ الغزاةُ.

.تفسير الآيات (174- 182):

{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)}
وقوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أمْرٌ لنبيِّهِ بالمُوَادَعَةِ، وَوَعْدٌ جَمِيلٌ، و{حتى حِينٍ} قيل هو يومُ بَدْرٍ، وقِيل: يومُ القيامةِ.
وقولهُ تعالى: {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} وَعْدٌ للنَّبي صلى الله عليه وسلم وَوَعِيدٌ لهُمْ، ثم وبَّخهم على استعجالِ العذَابِ {فَإِذَا نَزَلَ} أي: العذابُ، {بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ المنذرين} والساحةُ الفِنَاء، وسُوءُ الصباح: أيضاً مستعملٌ في وُرُودِ الغَارَاتِ، قلْتُ: ومنه قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَشْرَفَ على خَيْبَرَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إنَّا إذا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ، فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِينَ» انتهى، وقَرَأَ ابن مسعود: {فَبِئْسَ صَبَاحٌ}، والعزة في قولهِ: {رَبِّ العزة} هي العزة المَخْلُوقَةُ الكائِنَةُ للأنبياءِ والمؤمِنينَ؛ وكذلك قال الفقهاءُ مِنْ أجْلِ أنَّها مَرْبُوبَةٌ؛ قال محمدُ بن سُحْنُونَ وغيره: مَنْ حَلَفَ بعزَّةِ اللَّهِ، فَإنْ كَانَ أرادَ صِفَتَهُ الذَّاتِيَّةَ، فَهِي يَمينٌ، وإنْ كَانَ أَرَادَ عِزَّتَهُ الَّتِي خَلَقَ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَهي الَّتِي في قَوْلِه: {رَبِّ العزة} فَلَيْسَتْ بَيَمِينٍ، ورُوِيَ عَن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «إذا سَلَّمْتُمْ عَليّ، فَسَلِّمُوا عَلَى المُرْسَلِينَ؛ فإنَّما أَنَا أحَدُهُمْ» صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَعَلَى آله وعلى جميع النبيِّين وسلَّم.

.تفسير سورة ص:

وهي مكية بإجماع.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 5):

{ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)}
قرأ أُبَيُّ بن كَعْبٍ والحسن وابن أبي إسحاقَ: {صَادِ} بِكَسْرِ الدالِ، والمعنى: مَاثِلِ القرآن بِعَمَلِكَ، وقارِبْهُ بطاعَتِكَ، وكذا فسَّرهُ الحَسَن، أي: انظر أينَ عَمَلُكَ مِنْهُ، وقال الجمهورُ: إنه حَرْفُ مُعْجَمٍ يَدْخُلُه مَا يَدْخُل أوائِلَ السور مِنَ الأَقْوَالِ، وَيَخْتَصُّ هذا بأنْ قَالَ بعضُ الناسِ: معناه: صَدَقَ محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الضَّحَّاك: معناهُ: صَدَقَ اللَّهُ، وقال محمد بن كَعْب القُرَظِيُّ: هو مِفْتَاحُ أَسْمَاءِ اللَّهِ: صَمَدٌ صَادِقٌ، ونحوُهُ.
وقوله: {والقرءان ذِى الذكر} قَسَمٌ؛ قال ابن عباسٍ وغيره: معناه: ذي الشَّرَفِ الباقي المُخَلَّدِ، وقالَ قتادة: ذي التذكرةِ للنَّاسِ والهداية لهم، وقالت فرقةٌ: ذي الذِّكْرِ للأُمَمِ والقَصَصِ والغُيُوبِ، * ت *: ولا مانَعَ مِنْ أَنْ يُرَادَ الجميعُ، قال * ع *: وأما جَوَابُ القَسَمِ، فَاخْتُلِفَ فيه؛ فقالت فرقة: الجوابُ في قوله: {ص}؛ إذ هُوَ بمعنى: صَدَقَ اللَّهُ أو صَدَقَ محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقال الكوفيُّون والزَّجَّاج: الجَوَابُ في قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} [ص: 64]، وقَالَ بَعْضُ البصريِّين ومنهم الأخفَشُ: الجوابُ في قوله: {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل} [ص: 14] قال * ع *: وهذانِ القولانِ بَعيدانِ، وقال قتادة والطبري: الجواب مقدَّرٌ قَبْلَ {بل}، وهذا هو الصحيحُ، وتقديره: والقرآن، ما الأَمْرُ كَما يَزْعُمُونَ، ونَحْوُ هَذَا مِنَ التَّقْدِير، فَتَدَبَّرْهُ، وقال أبو حَيَّان: الجوابُ: إنك لمن المرسلين، وهو ما أثْبَتَ جَوَاباً للقرآن حينَ أقْسَمَ بهِ، انتهى، وهو حَسَنُ، قال أبو حيان: وقوله: {فِى عِزَّةٍ} هي قراءةُ الجمهور، وعن الكسائي بالغين المعجمة والراء، أي: في غَفْلَةٍ، انتهى.

والعِزَّةُ هنا: المُعَازَّةُ والمُغَالَبَةُ والشِّقَاقُ ونحوُهُ، أيْ: هم في شِقٍّ، والحَقُّ في شِقٍّ، وكَمْ للتكثير، وهي خَبَرٌ فِيه مثالٌ ووعيدٌ، وهِي في مَوْضِعِ نَصْبٍ ب {أَهْلَكْنَا}.
وقوله: {فَنَادَواْ} معناهُ: مُسْتَغِيثين، والمعنى: أنهم فَعلوا ذلك بعد المُعَايَنَةِ، فَلَمْ ينْفعهم ذلك؛ ولم يكُنْ في وَقْتِ نَفْعٍ، {وَّلاَتَ} بمعنى: ليس، واسمها مقدَّرٌ عند سِيبَوَيْهِ، تقدِيره: وَلاَتَ الحِينُ حِينَ مَنَاصٍ، والمَنَاصُ: المَفَرُّ، ناصَ يَنُوصَ: إذا فَرَّ وَفَاتَ، قالَ ابن عَبَّاس: المعنى: ليسَ بِحِينِ نَزْوٍ وَلاَ فِرَارٍ ضُبِطَ القوم، والضميرُ في {وَعَجِبُواْ} لكفارِ قريشٍ.

.تفسير الآيات (6- 8):

{وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)}
قوله تعالى: {وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا وَاْصْبِرُواْ على ءَالِهَتِكُمْ} الآية، رُوِيَ فِي قَصَصِ هذهِ الآيةِ، أنَّ أشْرَافَ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا عِنْدَ مَرَضِ أبي طالبٍ، وقالوا: إن مِنَ القبيحِ علينا أن يموتَ أبو طالب، ونُؤْذِيَ محمَّداً بَعْدَهُ، فتقولُ العربُ: تركُوهُ مُدَّةَ عَمِّهِ، فَلَمَّا مَاتَ آذَوْهُ، ولكن لِنذهبْ إلى أبي طالب فَيُنْصِفَنَا مِنْهُ ويَرْبِطَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ رَبْطاً، فَنَهَضُوا إليه، فقالوا: يا أبا طالب: إن محمداً يَسُبُّ آلهتَنا، ويُسَفِّهُ آراءنا، ونحنُ لا نُقَارُّهُ على ذلك، ولكن افْصِلْ بَيْنَنَا وبَيْنَهُ في حياتِكَ بأن يُقِيمَ في منزلهِ يَعْبُدُ ربَّهُ الذي يَزْعُمُ ويدعُ آلهتنا وسَبَّها، ولا يَعْرِضُ لأحَدٍ منا بشيْءٍ من هذا، فبعث أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمَّدُ، إن قومَكَ قَد دَعَوْكَ إلى النَّصَفَةِ، وهِيَ أن تَدَعَهُمْ وتَعْبُدَ رَبَّكَ وَحْدَكَ، فَقال: «أوَ غَيْرَ ذلكَ يا عَمُّ؟» قال: وما هو؟ قال: «يُعْطُونَنِي كَلِمَةً تَدِينُ لَهُمْ بِهَا العَرَبُ، وَتُؤَدِّي إلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ بِهَا العَجَمُ»، قَالُوا: وَمَا هِيَ؟! فَإنَّا نُبَادِرُ إلَيْهَا! قَالَ: «لاَ إله إلاَّ اللَّهُ»؛ فَنَفَرُوا عِنْدَ ذَلِكَ، وَقَالُوا: مَا يُرْضِيكَ مِنَّا غَيْرُ هذا؟ قال: «واللَّهِ، لَوْ أَعْطَيْتُمُونِي الأَرْضَ ذَهَبَاً وَمَالاً» وفي روايةِ «لَوْ جَعَلْتُمُ الشَّمْسَ فِي يَمِينِي والقَمَرَ فِي شِمَالِي مَا أرضى مِنْكُمْ غَيْرُهَا» فَقَامُوا عِنْدَ ذَلِكَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ لِبَعْضٍ: {أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}، ويُرَدِّدُونَ هذا المعنى، وعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ يقولُ: {امشوا وَاْصْبِرُواْ على ءَالِهَتِكُمْ}، فقوله تعالى: {وانطلق الملأ} عبارةٌ عن خروجِهم عَن أبي طالبٍ وانطلاقِهِمْ من ذلكَ الجَمْعِ، هذا قولُ جماعةٍ من المفسِّرين.
وقوله: {أَنِ امشوا} نَقَلَ الإمامُ الفخرُ أَنَّ {أنْ} بمعنى: أي، انتهى، وقولهم: {إِنَّ هذا لَشَئ يُرَادُ} يريدون ظهورَ محمَّدٍ وعلوَّه، أي: يُرادُ مِنَّا الانقيادُ لَه، وأنْ نكونَ له أتْبَاعاً، ويريدونَ بِالمِلَّةِ الآخرةِ مِلَّةَ عيسى، قاله ابنُ عبَّاس، وغيره؛ وذلك أنها ملَّةٌ شُهِرَ فيها التثليثُ.
ثم تَوَعَدَّهُمْ سبحانه بقوله: {بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ} أي: لو ذاقُوهُ، لَتَحَقَّقُوا أنَّ هذه الرسالة حقٌّ.

.تفسير الآيات (9- 14):

{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)}
وقوله تعالى: {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ...} الآية، عبارةُ الثعلبيّ: {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} يعني: مَفاتيح النبوَّة حتى يُعْطُوا مَنِ اختاروا، نظيرَهَا {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبّكَ} [الزخرف: 32].
قوله تعالى: {أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} يعني: أنَّ ذلكَ للَّهِ تعالى؛ يَصْطَفِي مَنْ يَشَاءُ {فَلْيَرْتَقُواْ في الأسباب} فَلْيَصْعَدُوا فِيمَا يُوَصِّلُهُمْ إلى السمواتِ، فليأتوا منها بالوحي إلى مَنْ يختارونَ، وهذا أمْرُ توبيخٍ وتَعْجِيزٍ، انتهى، ونحوه كلامُ * ع.
ثم وعدَ اللَّهُ نبيَّهُ النَّصْرَ، فقال: {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ} أي: مَغْلُوبٌ ممنوعٌ مِن الصُّعُودِ إلى السماء، {مِّن الأحزاب} أي: من جملة الأحزابِ، قال * ع *: وهذا تأويل قَوِيٌّ، وقالت فرقة: الإشارة ب {هُنَالِكَ} إلى حمايةِ الأصْنَامِ وعَضْدِهَا، أي: هؤلاءِ القومُ جندٌ مهزومٌ في هذهِ السبيلِ، وقال مجاهد: الإشارةُ ب {هنالكَ} إلى يوم بدر، وهي من الأمورِ المُغَيَّبَةِ أُخْبِرَ بها عليه السلام.
وما في قوله: {جُندٌ مَّا} زائدةٌ مؤكِّدةٌ، وفيها تخصيصٌ، وباقي الآية بيِّنٌ.
وقال أبو حَيَّانَ {جُندٌ} خَبَرُ مبتدإٍ محذوفٍ، أي: هُمْ جُنْدٌ وما زَائِدَة أو صِفَة أُريدَ بها التعظيمُ على سبيل الهُزْءِ بهم أو الاسْتِخْفَافِ؛ لأن الصفةَ تُسْتَعْمَلُ على هذينِ المعنيينِ، و{هُنَالِكَ} ظرفُ مكانٍ يُشَارُ بهِ إلى البَعِيدِ، في مَوْضِعِ صِفَةٍ ل {جُندٌ}، أي: كائنٌ هنالك، أو متعلِّقٌ ب {مَهْزُومٌ}، انتهى.